کد مطلب:309764 شنبه 1 فروردين 1394 آمار بازدید:284

القسمت 01


استیقظت «خدیجة» و شعور غریب بالفرحة و الأمل، ینبعث فی نفسها، انبعاث النور فی الظلام... و ربّما فكرت فی سبب ما لهذه الموجة الهانئة من الفرح... لم تكن تدری سبباً واضحاً لذلك.. فقد كان كل ما یحیطها یفجّر كوامن الحزن بل و یبعث علی المرارة و الیأس... هاهی تشهد كیف تصب قریش العذاب علی زوجها.. تضطهده.. تسخر منه.. و تكذّبه و هو الصادق الأمین.

تساءلت فی نفسها: لعلّه الحمل الجدید و الشجرة المثمرة عند ما تحمل یعنی الربیع و الأمل و الحیاة. ولكن كیف و قد أخذ اللَّه «عبداللَّه والقاسم» من قبل. و تركا فی قلبها حزناً عمیقاً كجرح لایندمل، ولكن لا... لا انها تشعر بالأمل.. یكبر فی أعماقها.. ینمو و یتفتّح كوردة فی الربیع.

و حملها هذه المرّة عجیب خفیف تكاد تطیر به.. تشعر بالسكینة


تترقرق فی قلبها كنبع بارد.. كما لاحظت شیئاً آخر... مسحة من نور شفّاف تطوف فوق وجهها... و شیئاً آخر أیضاً.. انّها لم تعد تشتهی طعاماً سوی الرطب و العنب.

أكملت خدیجة ارتداء حلّة الخروج.. فزوجها ینتظر، و «علیّ» الفتی الذی یتبع ابن عمه... یلازمه كظله، هو الآخر ینتظر.

انطلق الثلاثة.. أخذوا سمتهم نحو الكعبة مهوی الأفئدة و بیتاً بناه ابراهیم لربّه.

الكعبة تنشر ظلالها الوارفة فوق الأرض.. و السكینة تغمر المكان ما خلا حوار هادئ لرجال جالسین حول «زمزم» كان أحدهم یراقب مشهداً بدا له عجیباً.. كان یرنو إلی باب «الصفا». وقد طلع رجل بین الأربعین و الخمسین من عمره.. أقنی الأنف.. أدعج العینین كأنه قمر یمشی علی الأرض و إلی یمینه فتی یشبه شبلاً و خلفهما امرأة قد سترت محاسنها.

قصد الثلاثة «الحجر الأسود» فاستلموه ثم طافوا البیت سبع مرّات؛ بعدها وقف الرجل و الفتی إلی یمینه و المرأة خلفهما.

هتف الرجل الأدعج العینین: اللَّه أكبر فردّد الفتی وراءه: اللَّه أكبر وكذا المرأة خلفهما... ركع الرجل الأزهر الوجه ثم سجد والمرأة والفتی یتابعانه.


وحول «زمزم» تساءل رجل قدم مكة حدیثاً:

- هذا دین لم نعرفه من قبل.

أجاب رجل هاشمی:

- هذا ابن أخی محمّد بن عبداللَّه و امرأته خدیجة وهذا الفتی علی بن أبی طالب و ما علی وجه الأرض من یعبد اللَّه بهذا الدین إلّا هؤلاء الثلاثة.

ساد الوجوم وجوه الرجال وهم یراقبون موكباً صغیراً یغادر الكعبة حتی تواری خلف جدران البیوت.

و تمرّ الأیام و تمرّ الشهور و یكبر الحمل.. و یتألّق وجه خدیجة بالنور.. یشتدّ سطوعاً... و تبدأ آلام المخاض.

و بین صخور «حراء» كان محمّد یتأمل مكة، یفكر فی مصیر العالم و طریق الإنسان.

بدا وجهه حزیناً كسماء مزدحمة بالغیوم... یفكّر فی قومه.. یحزن من أجلهم.. یرید أن یفتح عیونهم علی النور الذی اكتشفه فوق الجبل، لكنّهم صدّوا عنه... اعتادوا حیاة الخفافیش فی الظلام... أعرضوا عن ملكوت السماوات.. فسقطوا فی حضیض الأرض... ضاعوا بین عناصر التراب والطین.

لن یدعوا شیئاً إلّا و فعلوه.. آذوه.. سخروا منه.. عیّروه. قالوا:


إنه ساحر كذّاب.. أبتر سیموت و یموت ذكره.. فلیس له ولد.

شعر بسكین حادّة تغوص فی قلبه و هو یتذكّر سخریتهم منه.. ینادونه بالأبتر. النبی یفكّر فی قومه حزیناً حزن نوح و ابراهیم و موسی و عیسی بن مریم. آخر الأنبیاء یفكّر غیر ملتفت لما یجری حوله.

تكهرب الفضاء.. غلالة شفافة كالضباب تملأ المكان.. و قد غمر الصمت جمیع الأشیاء.. اختفت الأصوات.. تلاشت و لم یعد «محمّد» یسمع شیئاً سوی كلمات.. تنفذ فی أعماقه نفوذ النور فی المیاه الرائقة..

كلمات مؤثّره عمیقة جفّ لها ریقه.. تصبب لها جبینه.. فبدا كحبّات لؤلؤ منثور.. الكلمات تضی ء فی أعماقه كالنجوم:

- إنّا أعطیناك الكوثر. فصلِّ لربِّك و انحر. أن شانئك هو الأبتر.

و انقلب الرسول إلی بیته فرحاً.. و لما دخل علی زوجته وجدها هی الاُخری فرحة.. تنظر الیه بعینین تفیضان حبّاً.. هتفت بصوت یشوبه اعتذار:

- إنی وضعتها اُنثی و لیس الذكر كالاُنثی.

تمتم النبی و هو یحتضن هدیة السماء بحب:

- إنّا أعطیناك الكوثر.. اسمیها فاطمة.. لیفطمها اللَّه من الشرور.


كلؤلؤة فی حنایا صدفة بدت فاطمة بفمها الدقیق.. بعینیها الواسعتین كنافذتین تطلّان علی عالم واسع.. عالم یموج بالصفاء والسلام.

أضاء الأمل منزلاً صغیراً من منازل مكّة.. و تفتّحت فاطمة للحیاة كما تتفتح الورود و الریاحین؛ و نمت فی أحضان دافئة تنعم بقلبین ینبضان حبّاً لها و بنظرات تغمرها حناناً و رأفة.

و كبرت فاطمة.. نمت و بدأت تعی شیئاً ممّا یجری حولها تنظر إلی أمّها یغمره الحزن.. و ربّما شعرت بمرارة تعتصر قلب أبیها و هی لا تعرف بعد سبباً لذلك.. تهفوا نحئو أمّها تقبل أباها.. فتعود البسمة إلی الوجهین الحزینین... و تشرق الفرحة من جدید كما تشرق الشمس من بین الغیوم لتغمر الأرض بالدف ء والنور والأمل.

و تمرّ الأیام.. و تنمو فاطمة.. و یعصف القدر بقسوة.. وتجد الطفلة نفسها بین ذراعی والدتها فی وادٍ غیر ذی زرع.. حیث أیام الجوع و الخوف و الحرمان..

تصغی إلی أنّات المظلومین.. و تتأمّل سیوفاً مسلولة فی الظلام. كبرت فاطمة فی الشِعب. فطمت اللبن و درجت فوق الرمال. ومرّ عام.

ومرّ بعده عامان آخران.. فجأة اختطف القدر امّها.. فقدت نبعاً ثرّاً من الحبّ...


فاطمة تبحث عن أمّها. تسأل أباها الحزین.

- أبه أین اُمی؟

ویجیب الأب المقهور و هو یحتضن ذكراه الغالیة:

- أمّك فی بیت من قصب لا تعب فیه و لا نصب.

تلوذ بالصمت.. تفكّر فی أمّها. عیناها تبحثان عن نبع سماوی ولكن دون جدوی.

كبرت فاطمة فی زمن الحرمان.. فی زمن الحصار.. فی زمن الیتم.. فی زمن القهر.. لهذا نشأت الطفلة نحیلة القوام كغصن كسیر.. رسم القهر فی عینیها الواسعتین لوحة حزینة منظراً ساكناً یغمره الصمت.. تفكّر.. تنطوی علی نفسها فی استغراق یشبه صلاة الأنبیاء، نشأت فاطمة فی زمن الجدب.. فغدا عودها صلباً ضارباً فی الأرض جذوراً بعیدة الغور.. فبدت أكبر من سنّها و نهضت تملأ فراغاً هائلاً أحدثه رحیل والدتها.. نهضت سیّدة صغیرة.. أمّاً رؤوماً لوالدها الذی

أضحی وحیداً.

و تمرّ الأیام.. و ذات مساء خرج المحاصرون فی «الشعب» إلی مكّة. عادوا إلی ضجیج الحیاة لتبدأ فصول اُخری من تاریخ مثیر یزخر بالأحداث.. منذ الساعة التی التقت فیها السماء بالأرض فی غار حراء.